فصل: تفسير الآية رقم (3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [3].
{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. لما أمر الله بعقوبة الزانييْن، حرم مناكحتهما على المؤمنين، هجراً لهما ولما معهما من الذنوب كقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، وجعل مُجالس فاعل ذلك المنكر، مثلَه بقوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، وهو زوج له قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]، أي: عشراءهم وأشباههم. ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب، ورفع إلى عُمَر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر. وكان فيهم جليس لهم صائم، فقال ابدءوا به في الجلد ألم يسمع قول الله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء: 140]، فإذا كان هذا في المجالسة والعشرة العارضة حين فعلهم المنكر، يكون مجالسهم مثلاً لهم، فكيف بالعشرة الدائمة: والزوج يقال له: العشير. كما في الحديث «ويكفرن العشير» وأخبر أنه لا يفعل ذلك إلا زان أو مشرك. أما المشرك فلا إيمان له يزجره عن الفواحش ومجامعة أهلها. وأما الزاني ففجوره يدعوه إلى ذلك، وإن لم يكن مشركاً. وفيها دليل على أن الزاني ليس بمؤمن مطلق الإيمان. وإن لم يكن مشركاً كما في الصحيح «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وذلك أنه أخبر أنه لا ينكح الزانية إلا زان أو مشرك. ثم قال تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فعلم أن الإيمان يمنع منه. وأن فاعله إما مشرك وإما زان، ليس من المؤمنين الذين يمنعهم إيمانهم من ذلك. وذلك أن المزاناة فيها فساد فراش الرجل وفي مناكحتها معاشرة الفاجرة دائماً. والله قد أمر بهجر السوء وأهله ما داموا عليه. وهذا موجود في الزاني. فإنه إن لم يفسد فراش امرأته كان قرين سوء لها، كما قال الشعبيّ: من زوج كريمته من فاسق، فقد قطع رحمها. وهذا مما يدخل المرأة ضراراً في دينها ودنياها. فنكاح الزانية أشد من جهة الفراش. ونكاح الزاني أشد من جهة أنه السيد المالك الحاكم. فتبقى المرأة الحرة العفيفة في أسر الفاجر الزاني الذي يقصّر في حقوقها، ويعتدي عليها، ولهذا اتفقوا على اعتبار الكفاءة في الدين، وعلى ثبوت الفسخ بفوات هذه الكفاءة. واختلفوا في صحة النكاح بدون ذلك. فإن من نكح زانية فقد رضي لنفسه بالقيادة والدياثة. ومن نكحت زانياً فهو لا يحصن ماءه، بل يضعه فيها وفي غيرها من البغايا. فهي بمنزلة المتخذة خدناً. فإن مقصود النكاح حفظ الماء في المرأة. وهذا لا يحفظ ماءه. والله سبحانه شرط في الرجال أن يكونوا محصنين غير مسافحين، فقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]، وهذا مما لا ينبغي إغفاله. فإن القرآن قد قصّه وبينه بياناً مفروضاً. كما قال تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} فأما تحريم نكاح الزانية فقد تكلم فيه الفقهاء. وفيه آثار عن السلف. وليس مع من أباحه ما يعتمد عليه، وقد ادعى بعضهم أنها منسوخة بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، وزعموا أن البغيّ من المحصنات. وتلك حجة عليهم، فإن أقل ما في الإحصان العفة. وإذا اشترط فيه الحرية، فذاك تكميل للعفة والإحصان. ومن حرم نكاح الأمة لئلا يرقّ ولده، فكيف يبيح البغيّ الذي يلحق به من ليس بولده؟ وأين فساد فراشه من رقّ ولده؟ وكذلك من زعم أن النكاح هنا هو الوطء وهذا حجة عليهم. فمن وطئ زانية أو مشركة بنكاح، فهو زان. وكذلك من وطئها زان. فإن ذم الزاني بفعله الذي هو الزنى. حتى لو استكرهها أو استدخلت ذكره وهو نائم كانت العقوبة للزاني دون قرينه. والمقصود أن الآية تدل على أن الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة. وأن ذلك حرام على المؤمنين. وليس هذا مجرد كونه فاجراً، بل لخصوصية كونه زانياً. وكذلك في المرأة. ليس بمجرد فجورها، بل لخصوص زناها، بدليل أنه جعل المرأة زانية إذا تزوجت زانياً كما جعله زانياً إذا تزوج زانية. وهذا إذا كانا مسلمين يعتقدان تحريم الزنى. وإلا إن كانا مشركين، فينبغي أن يعلم ذلك. ومضمونه أن الزاني لا يجوز إنكاحه حتى يتوب. وذلك يوافق اشتراطه الإحصان، والمرأة الزانية لا تحصن فرجها. ولهذا يجب عليه نفي الولد الذي ليس منه. فمن نكح زانية فهو زان، أي: تزوجها. ومن نكحت زانياً فهي زانية، أي: تزوجته. فإن كثيراً من الزناة قصروا أنفسهم على الزواني، فتكون خدناً له لا يأتي غيرها، فإن الرجل إذا كان زانياً لا يعف امرأته فتتشوق إلى غيره فتزني كما هو الغالب على نساء الزاني ومن يلوط بالصبيان. فإن نساءهم يزنين ليقضين أربهن وليراغمن أزواجهن. ولهذا يقال: عفوا تعف نساؤكم. وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم. فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها. فإن الرجل إذا رضي أن ينكح زانية، رضي بأن تزني امرأته. والله سبحانه قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة. فأحدهما يحب لنفسه ما يحب للآخر. فإذا رضيت المرأة أن تنكح زانياً فقد رضيت عمله، وكذلك الرجل. ومن رضي بالزنى فهو بمنزلة الزاني، فإن أصل الفعل هو الإرادة. ولهذا في الأثر: من غاب من معصية فرضيها كان كمن شهدها. وفي الحديث: «المرء على دين خليله» وأعظم الخلة خلة الزوجين. وأيضاً، فإن الله تعالى جعل في نفوس بني آدم من الغيرة ما هو معروف فيستعظم الرجل أن يطأ الرجل امرأته، أعظم من غيرته على نفسه أن يزني. فإذا لم يكره أن تكون زوجته بغياً وهو ديوثاً، كيف يكره أن يكون هو زانياً؟ ولهذا لم يوجد من هو ديوث أو قواد يعفّ عن الزنى، فإن الزنى له شهوة في نفسه. والديوث له شهوة في زنى غيره. فإذا لم يكن معه إيمان يكره من زوجته ذلك، كيف يكون معه إيمان يمنعه من الزنى؟ فمن استحل أن يترك امرأته تزني، استحل أعظم الزنى. ومن أعان على ذلك فهو كالزاني. ومن أقر عليه، ما إمكان تغييره، فقد رضيه. ومن تزوج غير تائبة فقد رضي أن تزني. إذ لا يمكنه منعها. فإن كيدهن عظيم. ولهذا جاز له، إذا أتت بفاحشة مبينة، أن يعضلها لتفتدي. لأنها بزناها طلبت الاختلاع منه وتعرضت لإفساد نكاحه. فإنه لا يمكنه المقام معها حتى تتوب. ولا يسقط المهر بمجرد زناها. كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للملاعن لما قال مالي، قال: «لا مال لك عندها إن كنت صادقاً فهو بما استحللت من فرجها»، وإن كنت كاذباً عليها فذاك أبعد وأبعد لك منها؛ لأنها إذا زنت قد تتوب. لكن زناها يبيح إعضالها حتى تفتدي إن اختارت فراقه، أو تتوب. وفي الغالب أن الرجل لا يزني بغير امرأته، إلا إذا أعجبه ذلك الغير. فلا يزال بما يعجبه، فتبقى امرأته بمنزلة المعلقة. لا هي أيّم ولا ذات زوج. فيدعوها ذلك إلى الزنى، ويكون الباعث لها مقابلة زوجها على وجه القصاص. فإذا كان من العادين لم يكن قد أحصن نفسه. وأيضاً فإن داعية الزاني تشتغل بما يختاره من البغايا، فلا تبقى داعيته إلى الحلال تامة، ولا غيرته كافية في إحصانه المرأة، فتكون عنده كالزانية المتخذة خدناً، وهذه معان شريفة لا ينبغي إهمالها. وعلى هذا، فالمساحقة زانية، كما في الحديث: «زنى النساء سحاقهن» والذي يعمل عمل قوم لوط زان، فلا ينكح إلا زانية أو مشركة. ولهذا يكثر في نساء اللوطي من تزني، وربما زنت بمن يتلوط به مراغمة له وقضاء لوطرها. وكذلك المتزوجة بمخنث ينكح كما تنكح، هي متزوجة بزان، بل هو أسوأ الشخصين حالاً. فإنه مع الزنى صار ملعوناً على نفسه للتخنيث، غير اللعنة التي تصيبه بعمل قوم لوط. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من يعمل عمل قوم لوط. وفي الصحيح أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء. وكيف يجوز لها أن تتزوج بمخنث قد انتقلت شهوته إلى دبره؟ فهو يؤتى كما تؤتى المرأة. وتضعف داعيته من أمامه كما تضعف داعية الزاني بغير امرأته عنها. فإذا لم يكن له غيرة على نفسه، ضعفت غيرته على امرأته وغيرها. ولهذا يوجد من كان مخنثاً ليس له كبير غيرة على ولده ومملوكه ومن يكفله، والمرأة إذا رضيت بالمخنث واللوطيّ، كانت على دينه، فتكون زانية، وأبلغ. فإن تمكين المرأة من نفسها أسهل من تمكين الرجل من نفسه. فإذا رضيت ذلك من زوجها رضيته من نفسها.
ولفظ الآية: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} يتناول هذا كله بطريق عموم اللفظ، أو بطريق التنبيه. وفحوى الخطاب الذي هو أقوى من مدلول اللفظ. وأدنى من ذلك أن يكون بطريق القياس، كما بيناه في حد اللوطيّ وغيره. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله. وكله تأييد لما ذهب إليه الإمام أحمد من أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغيّ، ما دامت كذلك، فإن تابت صح العقد عليها، وإلا فلا. وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة. لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} كما فضّله تقيّ الدين.
وقد روى هنا الحافظ ابن كثير آثاراً مرفوعة وموقوفة، كلها مؤكدة لهذا. ثم قال بعدها: فأما الحديث الذي رواه النسائي عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي امرأة من أحب الناس إليّ، وهي لا تمنع يد لامس. قال: «طلقها» قال: لا صبر لي عنها. قال: «استمتع بها». فقال النسائي: هذا الحديث غير ثابت. وعبد الكريم أحد رواته ضعيف الحديث ليس بالقويّ. وقال الإمام أحمد: هو حديث منكر. وقال ابن قتيبة: إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلاً. وحكاه النسائي في سننه عن بعضهم. فقال: وقيل: سخية تعطي. وردّ هذا بأنه لو كان المراد لقال: لا ترد يد ملتمس. وقيل: المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس، لا أن المراد أن هذا واقع منها، وأنها تفعل الفاحشة. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها، فإن زوجها والحالة هذه يكون ديوثاً، وقد تقدم الوعيد على ذلك. ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها. فلما ذكر أنه يحبها أباح البقاء معها. لأن محبته لها محققة. ووقوع الفاحشة منها متوهم، فلا يصار إلى الضرر العاجل للتوهم الآجل. والله أعلم. انتهى.
لطيفة:
سر تقديم الزانية في الآية الأولى والزاني في الثانية: أن الأولى في حكم الزنى والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الإيماض والإطماع. والثانية في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة. والأصل في النكاح الذكور، وهم المبتدئون بالخطبة، فلم يسند إلا لهم، لهذا وإن كان الغرض من الآية تنفير الأعفّاء من الذكور والإناث، من مناكحة الزناة ذكوراً وإناثاً، زجراً لهم عن الفاحشة، ولذَلك قرن الزنى والشرك. ومن ثم كره مالك رحمه الله مناكحة المشهورين بالفاحشة، وقد نقل أصحابه الإجماع في المذهب على أن للمرأة أو لمن قام من أوليائها فسخ نكاح الفاسق. ومالكٌ أبعد الناس من اعتبار الكفاءة إلا في الدين. وأما في النسب فقد بلغه أنهم فرقوا بين عربية ومولى، فاستعظمه وتلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، انتهى كلام الناصر في الانتصاف ومراد السلف بالكراهة، ما تعرف بالكراهة التحريمية. فيقرب بذلك مذهب المالكية.
ثم بيّن تعالى حكم جَلد القاذف للمحصنة، وهي الحرة البالغة العفيفة، بقوله سبحانه وتعالى:

.تفسير الآيات (4- 5):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [4- 5].
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} أي: يقذفون بالزنى: {الْمُحْصَنَاتِ} أي: المسلمات الحرائر العاقلات البالغات العفيفات عن الزنى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي: يشهدون على ما رموهن به: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أي: كل واحد من الرامين. وتخصيص النساء لخصوص الواقعة، ولأن قذفهن أغلب وأشنع. وإلا فرق فيه بين الذكر والأنثى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} أي: في أي: واقعة كانت، لظهور كذبهم: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: لخروجهم عما وجب عليهم من رعاية حقوق المحصنات: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي: القذف: {وَأَصْلَحُوا} أي: أعمالهم: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: بقبول توبتهم وعفوه عنهم.
تنبيهات:
الأول: قال ابن تيمية: ذكر تعالى عدد الشهداء وأطلق صفتهم ولم يقيدهم بكونهم منا ولا ممن نرضى ولا من ذوي العدل ولهذا تنازعوا: هل شهادة الأربعة التي لا توجب الحد مثل شهادة أهل الفسوق؟ هل تدرأ الحد عن القاذف؟ على قولين: أحدهما تدرأ كشهادة الزوج على امرأته أربعاً. فإنها تدرأ حد القذف ولا توجب الحد على المرأة. ولو لم تشهد المرأة، فهل تحد أو تحبس حتى تقر أو تلاعن، أو يخلى سبيلها؟ فيه نزاع. فلا يلزم من درء الحد عن القاذف، وجوب حد الزنى فإن كلاهما حد. والحدود تدرأ بالشبهات. وأربع شهادات للقاذف شبهة قوية، ولو اعترف المقذوف مرة أو مرتين أو ثلاثاً درئ الحد عن القاذف ولم يجب الحد عليه عند أكثر العلماء ولو كان المقذوف غير مِحْصَن، مثل أن يكون مشهوراً بالفاحشة، لم يحد قاذفه حد القذف. ولم يحد هو حد الزنى بمجرد الاستفاضة. وإن كان يعاقب كل منهما دون الحد. ولا يقام حد الزنى على مسلم إلا بشهادة مسلمين. لكن يقال لم يقيّدهم بالعدالة، وقد أمرنا الله أن نحمل الشهادة المحتاج إليها لأهل العدل والرضا وهم الممتثلون ما أمر الله به بقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135]، وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]، وقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283]، وقوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33]، فهم يقومون بها بالقسط لله، فيحصل مقصود الذي استشهدوه.
والوجه الثاني: كون شهادتهم مقبولة لأنهم أهل العدل والرضا. فدل على وجوب ذلك في القبول والأداء. وقد نهى الله سبحانه عن قبول شهادة الفاسق بقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. لكن هذا نص في أن الفاسق الواحد يجب التبين في خبره. وأما الفاسقان فصاعداً. فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدمة أخرى، وما ذكره من عدد الشهود لا يتعين في الحكم باتفاق العلماء في مواضع. وعند الجمهور يحكم بلا شهود في مواضع عند النكول والرد ونحو ذلك.
ونحكم بشاهد ويمين كما مضت بذلك السنة. ويدل على هذا أن الله لم يعتبر عند الأداء هذا القيد، لا في آية الزنى، ولا في آية القذف. بل قال: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وإنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد، ولم يأمر به عند خبر الفاسقيْن. فإن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد. ولهذا قال العلماء: إذا استراب الحاكم في الشهود، فرّقهم وسألهم عما تبين به اتفاقهم واختلافهم. انتهى.
الثاني: قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ذهب الجمهور إلى أن شهادة القذف بعد التوبة تقبل. ويزول عنه اسم الفسق. سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله، لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} روى البيهقيّ عن ابن عباس في هذه الآية: فمن تاب فشهادته في كتاب الله تقبل. وتأولوا قوله تعالى: {أَبَداً} على أن المراد ما دام مصرّاً على قذفه. لأن أبد كل شيء على ما يليق به. كما لو قيل: لا تقبل شهادة الكافر أبداً، فإن المراد ما دام مصرّاً على الكفر. وبالغ الشعبيّ فقال: إن تاب القاذف قبل إقامة الحد عليه، سقط عنه. وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء يتعلق بالفسق خاصة. فإذا تاب سقط عنه اسم الفسق، وأما شهادته فلا تقبل أبداً. وقال بذلك بعض التابعين. انتهى.
قال الزمخشري: والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها، أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط. كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلودهم، وردّوا شهادتهم وفسّقوهم. أي: فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا، فإن الله يغفر لهم، فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسَّقين. انتهى.
وأخرج البخاريّ في صحيحه في كتاب الشهادات في باب شهادة القاذف والسارق والزاني، عن عمر رضي الله عنه، أنه جلد أبا بكرة وشبل بن مَعْبَد ونافعاً، بقذف المغيرة بالزنى، لما شهدوا بأنهم رأوه متبطن المرأة. ولم يبتّ زيادٌ الشهادة. ثم استتابهم وقال: من تاب قبلتُ شهادته. وفي رواية قال لهم: من أكذب نفسه قبلتُ شهادته فيما يستقبل. ومن لم يفعل، لم أجز شهادته. فأكذب شِبْل نفسه ونافع. وأبى أبو بكرة أن يرجع.
قال المهلب: يستنبط من هذا، أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطاً في قبول توبته. لأن أبا بكرة لم يكذب نفسه، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعملوا بها.
الثالث: قال الرازيّ: اختلفوا في أن التوبة عن القذف كيف تكون؟
قال الشافعي رحمه الله: التوبة منه إكذابه نفسه، واختلف أصحابه في معناه. فقال الإصطخريّ: يقول كذبت فيما قلت فلا أعود لمثله. وقال أبو إسحاق: لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقاً فيكون قوله: كذبت كذباً، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل. ندمت على ما قلت، ورجعت عنه، ولا أعود إليه.
الرابع: قال الرازيّ في قوله تعالى: {وَأَصْلَحُوا} قال أصحابنا: إنه بعد التوبة، لابد من مضيّ مدة عليه في حسن الحل، حتى تقبل شهادته وتعود ولايته. ثم قدَّروا تلك المدة بسَنة حتى تمر عليه الفصول الأربعة، التي تتغير فيها الأحوال والطباع. كما يضرب للعنّين أجل سنة. وقد علق الشرع أحكاماً بالسنة من الزكاة والجزية وغيرهما. انتهى.
وقال الغزاليّ في الوجيز يكفيه أن يقول: تبت ولا أعود. إلا إذا أقر على نفسه بالكذب، فهو فاسق، يجب استبراؤه ككل فاسق يقول: تبت. فإنه لا يصدق حتى يستبرأ مدة فيعلم بقرائن الأحوال صلاح سريرته. انتهى.
وبه يعلم أن التقدير بسنة لا دليل عليه، بل المدار على علم صلاحه وظهور استقامته، ولو على أثر الحدّ.
قال الحافظ ابن حجر: روى سعيد بن منصور من طريق حصين بن عبد الرحمن قال: رأيت رجلاً جُلد حدّاً في قذف بالزنى. فلما فرغ من ضربه أحدث توبة. فلقيت أبا الزناد فقال لي: الأمر عندنا بالمدينة، إذا رجع القاذف عن قوله، فاستغفر ربه، قبلت شهادته وعلّقه البخاريّ.
الخامس: ننقل هنا ما أجمله السيوطيّ في الإكليل مما يتعلق بأحكام الآية. قال رحمه الله: في هذه الآية تحريم القذف، وأنه فسق، وأن القاذف لا تقبل شهادته، وأنه يجلد ثمانين إذا قذف محصنة أي: عفيفة. ومفهومه أنه إذا قذف من عرفت بالزنى لا يحد للقذف. ويصرح بذلك قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [4] وفيها أن الزنى لا يقبل فيه إلا أربعة رجال، لا أقل. ولا نساء. وسواء شهدوا مجتمعين أو متفرقين. واستدل بعموم الآية من قال: يحدّ العبد أيضاً ثمانين. ومن قال: يحد قاذف الكافر والرقيق وغير البالغ والمجنون وولده. واحتج بها على أن من قذف نفسه ثم رجع لا يحدّ لنفسه. لأنه لم يرح أحداً واستدل بها من قال: إن حد القذف من حقوق الله، فلا يجوز العفو عنه. انتهى.
ثم رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، تحقيقاً في بحث قبول الشهادة بعد التوبة، جديراً بأن يؤثر. قال رحمه الله: وقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} نصُّ في أن هؤلاء القذفة لا تقبل شهادتهم أبداً. واحداً كانوا أو عدداً. بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل الجمع والبدل، لأنها نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير. وكان الذين قذفوا عائشة عدداً، ولم يكونوا واحداً لما رأوها قدمت صحبة صفوان بن المعطل، بعد قفول العسكر، وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها فُقدت، فرفعوا هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها، ولم تكن فيه. فلما رجعت لم تجد أحداً فمكثت مكانها. وكان صفوان قد تخلف وراء الجيش. فلما رآها أعرض بوجهه عنها وأناخ راحلته حتى ركبتها. ثم ذهب إلى العسكر فكانت خلوته بها للضرورة. كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة كسفر الهجرة مثل ما قدمت أم كلثوم بنت عقبة مهاجرة وقصة عائشة.
ودلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم مجتمعين ولا متفرقين. ودلت الآية على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب الجمهور. فإنه كان من جملتهم مسطح وحسان وحمنة. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يردّ شهادة أحد منهم، ولا المسلمون بعده لأنه كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها. ومن لم يتب حينئذ، فإنه كافر مكذب بالقرآن. وهؤلاء مازالوا مسلمين وقد نهى الله عن قطع صلتهم. ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر شهادة أبي بكرة. وقصة عائشة أعظم من قصة المغيرة. لكن من رد شهادة القاذف بعد التوبة يقول: أرد شهادة من حُدّ في القذف. وهؤلاء لم يحدوا. والأولون يجيبون بأجوبة: أحدها: أنه قد روي في السنن أنهم حدوا. الثاني: أن هذا الشرط غير معتبر في ظاهر القرآن، وهم لا يقولون به. الثالث: أن الذين اعتبروا الحد واعتبروه وقالوا: قد يكون القاذف صادقاً وقد يكون كاذباً. فإعراض المقذوف عن طلب الحد قد يكون لصدق القاذف. فإذا طلبه ولم يأت القاذف بأربعة شهداء ظهر كذبه. ومعلوم أن الذين قذفوا عائشة ظهر كذبهم أعظم من ظهور كذب كل أحد. فإن الله عز وجل هو الذي برأها بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سموات يتلى، فإذا كانت شهادتهم مقبولة، فغيرهم أولى. وقصة عمر التي حكم فيها بين المهاجرين والأنصار، في شأن المغيرة، دليل على الفصلين جميعاً. لما توقف الرابع فجلد الثلاثة دونه ورد شهادتهم لأن اثنين من الثلاثة تابا فقبل شهادتهما. والثالث، هو أبو بكرة، مع كونه من أفضلهم، لم يتب فلم يقبل المسلمون شهادته. وقد قال عمر: تب أقبل شهادتك. لكن إذا كان القرآن قد بين أنهم إن لم يأتوا بأربعة شهداء لم تقبل شهادتهم أبداً، ثم قال بعد ذلك: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فمعلوم أن قوله: {هُمُ الْفَاسِقُونَ} وصف ذم لهم زائد على رد الشهادة.
وأما تفسير العدالة فإنها الصلاح في الدين والمروءة. وإذا وجد هذا في شخص كان عدلاً في شهادته وكان من الصالحين، وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية ولا رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتى يكون بهذه الصفة، فليس في كتاب الله وسنة رسوله ما يدل على ذلك، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات وإن كان المستحبات لم يكملها. ومن كان كذلك كان من أولياء الله المتقين.
ثم إن القائلين بهذا قد يفسرون الواجبات بالصلوات الخمس ونحوها، بل قد يجب على الإنسان من حقوق الله وحقوق عباده ما لا يحصيه إلا الله، مما يكون تركه أعظم إثما من شرب الخمر والزنى ومع ذلك لم يجعلوه قادحا في عدالته، إما لعدم استشعار كثرة الواجبات، وإما لالتفافهم إلى ترك السيئات دون فعل الواجبات، وليس الأمر كذلك في الشريعة. وبالجملة، فهذا معتبر في باب الثواب والعقاب والمدح والذم والموالاة والمعاداة، وهذا أمر عظيم. وباب الشهادة مداره على أن يكون الشهيد مرضيّاً، أو يكون ذا عدل بتحري القسط والعدل في أقواله وأفعاله. والصدق في شهادته وخبره. وكثيراً ما يوجد هذا مع الإخلال بكثير من تلك الصفات. كما أن الصفات التي اعتبروها كثيرا ما توجد بدون هذا كما قد رأينا كل واحد من الصنفين كثيراً. لكن يقال: إن ذلك مظنة الصدق والعدل والمقصود من الشهادة ودليل عليها وعلامة لها. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق على صحته: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة..» الحديث. فالصدق مستلزم للبر، كما أن الكذب مستلزم للفجور. فإذا وجد الملزوم، وهو تحري الصدق، وجد اللازم وهو البر. وإذا انتفى اللازم وهو البر انتفى الملزوم وهو الصدق. وإذا وجد الكذب وهو الملزوم وجد الفجور وهو اللازم. وإذا انتفى اللازم وهو الفجور انتفى الملزوم وهو الكذب، ولهذا يستدل بعدم بر الرجل على كذبه. وبعدم فجوره على صدقه. فالعدل الذي ذكروه، من انتفى فجوره. وهو إتيان الكبيرة والإصرار على الصغيرة. وإذا انتفى ذلك فيه، انتفى كذبه الذي يدعوه إلى الفجور. والفاسق هو من عدم بره، وإذا عدم بره عدم صدقه. ودلالة هذا الحديث مبنية على أن الداعي إلى البر يستلزم البر، والداعي إلى الفجور يستلزم الفجور. فالخطأ كالنسيان والعمد كالكذب. انتهى. ثم بين تعالى حكم الرامين لأزواجه خاصة، بعد بيان حكم الرامين بغيرهن، بقوله سبحانه: